فصل: بابُ عِدّةُ الْحامِلِ:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.بابُ عِدّةُ الْآيِسةِ والصّغِيرةِ:

قال الله تعالى: {واللائِي يئِسْن مِنْ الْمحِيضِ مِنْ نِسائِكُمْ إنْ ارْتبْتُمْ فعِدّتُهُنّ ثلاثةُ أشْهُرٍ واللائِي لمْ يحِضْن} قال أبُو بكْرٍ: قدْ اقْتضتْ الْآيةُ إثْبات الْإِياسِ لِمنْ ذُكِرتْ فِي الْآيةِ مِنْ النِّساءِ بِلا ارْتِيابٍ، وقوله تعالى: {إنْ ارْتبْتُمْ} غيْرُ جائِزٍ أنْ يكُون الْمُرادُ بِهِ الِارْتِياب فِي الْإِياسِ؛ لِأنّهُ قدْ أثْبت حُكْم منْ ثبت إياسُها فِي أوّلِ الْآيةِ، فوجب أنْ يكُون الْمُرادُ بِهِ الِارْتِياب فِي غيْرِ الْإِياسِ واخْتلف أهْلُ الْعِلْمِ فِي الرِّيبةِ الْمذْكُورةِ فِي الْآيةِ، فروى مُطرِّفٌ عنْ عمْرِو بْنِ سالِمٍ قال: قال أُبيّ بْنُ كعْبٍ: يا رسُول الله إنّ عددا مِنْ عددِ النِّساءِ لمْ تُذْكرْ فِي الْكِتابِ الصِّغارُ والْكِبارُ وأُولاتُ الْأحْمالِ فأنْزل الله تعالى: {واللائِي يئِسْن مِنْ الْمحِيضِ مِنْ نِسائِكُمْ إنْ ارْتبْتُمْ فعِدّتُهُنّ ثلاثةُ أشْهُرٍ واللائِي لمْ يحِضْن وأُولاتُ الْأحْمالِ أجلُهُنّ أنْ يضعْن حمْلهُنّ} فأخْبر فِي هذا الْحديث أنّ سبب نُزُولِ الْآيةِ كان ارْتِيابهُمْ فِي عددِ منْ ذُكِر مِنْ الصِّغارِ والْكِبارِ وأُولاتِ الْأحْمالِ، وأنّ ذِكْر الِارْتِيابِ فِي الْآيةِ إنّما هُو على وجْهِ ذِكْرِ السّببِ الّذِي نزل عليْهِ الْحُكْمُ فكان بِمعْنى: {واللائِي يئِسْن مِنْ الْمحِيضِ مِنْ نِسائِكُمْ إنْ ارْتبْتُمْ فعِدّتُهُنّ ثلاثةُ أشْهُرٍ} واخْتلف السّلفُ ومنْ بعْدهُمْ مِنْ فُقهاءِ الْأمْصارِ فِي الّتِي يرْتفِعُ حيْضُها، فروى ابْنُ الْمُسيِّبِ عنْ عُمر قال: أيُّما امْرأةٍ طلُقتْ فحاضتْ حيْضة أوْ حيْضتيْنِ ثُمّ رُفِعتْ حيْضتُها فإِنّهُ ينْتظِرُ بِها تِسْعة أشْهُرٍ فإِنْ اسْتبان بِها حمْلٌ فذاك وإِلّا اعْتدّتْ بعْد التِّسْعةِ الْأشْهُرِ بِثلاثةِ أشْهُرٍ ثُمّ حلّتْ.
وعنْ ابْنِ عبّاسٍ فِي الّتِي ارْتفع حيْضُها سنة قال: تِلْك الرِّيبةُ وروى معْمرٌ عنْ قتادة عنْ عِكْرِمة فِي الّتِي تحِيضُ فِي كُلِّ سنةٍ مرّة قال هذِهِ رِيبةٌ عِدّتُها ثلاثةُ أشْهُرٍ وروى سُفْيانُ عنْ عمْرٍو وعنْ طاوس مِثْلهُ ورُوِي عنْ علِيٍّ وعُثْمان وزيْدِ بْنِ ثابِتٍ أنّ عِدّتها ثلاثُ حِيضٍ وروى مالِكٌ عنْ يحْيى بْنِ سعِيدٍ عنْ مُحمّدِ بْنِ يحْيى بْنِ حِبّان أنّهُ قال: وكان عِنْد جدِّهِ حِبّان امْرأتانِ هاشِمِيّةٌ وأنْصارِيّةٌ فطلّق الْأنْصارِيّة وهِي تُرْضِعُ فمرّتْ بِهِ سنةٌ ثُمّ هلك ولمْ تحِضْ، فقالتْ: أنا أرِثُهُ ولمْ أحِضْ، فاخْتصما إلى عُثْمان فقضى لها بِالْمِيراثِ فلامتْ الْهاشِمِيّةُ عُثْمان، فقال هذا عملُ ابْنِ عمِّك هُو أشار عليْنا بِذلِك، يعْنِي علِيّ بْن أبِي طالِبٍ.
وروى ابْنُ وهْبٍ قال: أخْبرنِي يُونُسُ عنْ ابْنِ شِهابٍ بِهذِهِ الْقِصّةِ قال: وبقِيتْ تِسْعةُ أشْهُرٍ لا تحِيضُ، وذكر الْقِصّة فشاور عُثْمانُ علِيّا وزيْدا فقالا: ترِثُهُ؛ لِأنّها ليْستْ مِنْ الْقواعِدِ اللائِي قدْ يئِسْن مِنْ الْمحِيضِ ولا مِنْ الْأبْكارِ اللائِي لمْ يحِضْن، وهِي عِنْدهُ على حيْضتِها ما كانتْ مِنْ قلِيلٍ أوْ كثِيرٍ وهذا يدُلُّ على قولهِما: إنّ قوله تعالى: {إنْ ارْتبْتُمْ} ليْس على ارْتِيابِ الْمرْأةِ ولكِنّهُ على ارْتِيابِ الشّاكِّين فِي حُكْمِ عددِهِنّ، وأنّها لا تكُونُ آيِسة حتّى تكُون مِنْ الْقواعِدِ اللاتِي لا يُرْجى حيْضُهُنّ ورُوِي عنْ ابْنِ مسْعُودٍ مِثْلُ ذلِك.
واخْتلف فُقهاءُ الْأمْصارِ فِي ذلِك أيْضا، فقال أصْحابُنا فِي الّتِي يرْتفِعُ حيْضُها لا لِإِياسٍ مِنْهُ فِي الْمُسْتأْنفِ: إنّ عِدّتها الْحيْضُ حتّى تدْخُل فِي السِّنِّ الّتِي لا تحِيضُ أهْلُها مِنْ النِّساءِ فتسْتأْنِف عِدّة الْآيِسةِ ثلاثة أشْهُرٍ. وهُو قول الثّوْرِيِّ والليْثِ والشّافِعِيِّ وقال مالِكٌ: تنْتظِرُ تِسْعة أشْهُرٍ فإِنْ لمْ تحِضْ فِيهِنّ اعْتدّتْ ثلاثة أشْهُرٍ، فإِنْ حاضتْ قبْل أنْ تسْتكْمِل الثّلاثة أشْهُرٍ اسْتقْبلتْ الْحيْض، فإِنْ مضتْ بِها تِسْعةُ أشْهُرٍ قبْل أنْ تحِيض اعْتدّتْ ثلاثة أشْهُرٍ. وقال ابْنُ الْقاسِمِ عنْ مالِكٍ: إذا حاضتْ الْمُطلّقةُ ثُمّ ارْتابتْ فإِنّما تعْتدُّ بِالتِّسْعةِ الْأشْهُرِ مِنْ يوْمِ رُفِعتْ حيْضتُها لا مِنْ يوْمِ طلُقتْ. قال مالِكٌ فِي قوله تعالى: {إنْ ارْتبْتُمْ} معْناهُ إنْ لمْ تدْرُوا ما تصْنعُون فِي أمْرِها. وقال الْأوْزاعِيُّ فِي رجُلٍ طلّق امْرأتهُ وهِي شابّةٌ فارْتفعتْ حيْضتُها فلمْ تر شيْئا ثلاثة أشْهُرٍ: فإِنّها تعْتدُّ سنة.
قال أبُو بكْرٍ: أوْجب الله بِهذِهِ الْآيةِ عِدّة الْآيِسةِ ثلاثة أشْهُرٍ، واقْتضى ظاهِرُ اللفْظِ أنْ تكُون هذِهِ الْعِدّةُ لِمنْ قدْ ثبت إياسُها مِنْ الْحيْضِ مِنْ غيْرِ ارْتِيابٍ، كما كان قولهُ: {واللائِي لمْ يحِضْن} لِمنْ ثبت أنّها لمْ تحِضْ، وكقولهِ: {وأُولاتُ الْأحْمالِ أجلُهُنّ} لِمنْ قدْ ثبت حمْلُها، فكذلِك قولهُ: {واللائِي يئِسْن} لِمنْ قدْ ثبت إياسُها وتُيُقِّن ذلِك مِنْها دُون منْ يشُكُّ فِي إياسِها ثُمّ لا يخْلُو قولهُ: {إنْ ارْتبْتُمْ} مِنْ أحدِ وُجُوهٍ ثلاثةٍ: إمّا أنْ يكُون الْمُرادُ الِارْتِياب فِي أنّها آيِسةٌ وليْستْ بِآيِسةٍ، أوْ الِارْتِياب فِي أنّها حامِلٌ أوْ غيْرُ حامِلٍ، أوْ ارْتِياب الْمُخاطبِين فِي عِدّةِ الْآيِسةِ والصّغِيرةِ؛ وغيْرُ جائِزٍ أنْ يكُون الْمُرادُ الِارْتِياب فِي أنّها آيِسةٌ أوْ غيْرُ آيِسةٍ؛ لِأنّهُ تعالى قدْ أثْبت منْ جعل الشُّهُور عِدّتها أنّها آيِسةٌ، والْمشْكُوكُ فِيها لا تكُونُ آيِسة لِاسْتِحالةِ مُجامعةِ الْيأْسِ للرّجاءِ؛ إذْ هُما ضِدّانِ لا يجُوزُ اجْتِماعُهُما حتّى تكُون آيِسة مِنْ الْمحِيضِ مرْجُوّا ذلِك مِنْها، فبطل أنْ يكُون الْمعْنى الِارْتِياب فِي الْيأْسِ ومِنْ جِهةٍ أُخْرى اتِّفاقُ الْجمِيعِ على أنّ الْمُسِنّة الّتِي قدْ تُيُقِّن إياسُها مِنْ الْحيْضِ مُرادةٌ بِالْآيةِ، والِارْتِيابُ الْمذْكُورُ راجِعٌ إلى جمِيعِ الْمُخاطبِين وهُو فِي الّتِي قدْ تُيُقِّن إياسُها ارْتِيابُ الْمُخاطبِين فِي الْعِدّةِ فوجب أنْ يكُون فِي الْمشْكُوكِ فِي إياسِها مِثْلُهُ لِعُمُومِ اللفْظِ فِي الْجمِيعِ.
وأيْضا فإِذا كانتْ عادتُها وهِي شابّةٌ أنّها تحِيضُ فِي كُلِّ سنةٍ مرّة فهذِهِ غيْرُ مُرْتابٍ فِي إياسِها بلْ قدْ تُيُقِّن أنّها مِنْ ذواتِ الْحيْضِ، فكيْف يجُوزُ أنْ تكُون عِدّتُها سنة مع الْعِلْمِ بِأنّها غيْرُ آيِسةٍ، وأنّها مِنْ ذواتِ الْحيْضِ وتراخِي ما بيْن الْحيْضتيْنِ مِنْ الْمُدّةِ لا يُخْرِجُها مِنْ أنْ تكُون مِنْ ذواتِ الْحيْضِ فالْمُوجِبُ عليْها عِدّة الشُّهُورِ مُخالِفٌ للكِتابِ؛ لِأنّ الله تعالى جعل عِدّة ذواتِ الأقراء الْحيْض بِقوله تعالى: {والْمُطلّقاتُ يتربّصْن بِأنْفُسِهِنّ ثلاثة قُرُوءٍ} ولمْ يُفرّقْ بيْن منْ طالتْ مُدّةُ حيْضتِها أوْ قصُرتْ ولا يجُوزُ أنْ يكُون أيْضا الْمُرادُ الِارْتِياب فِي الْإِياسِ مِنْ الْحمْلِ؛ لِأنّ الْيأْس مِنْ الْحيْضِ هُو الْإِياسُ مِنْ الْحبلِ، وقدْ دللنا على بُطْلانِ قول منْ ردّ الِارْتِياب إلى الْحيْضِ، فلمْ يبْق إلّا الْوجْهُ الثّالِثُ، وهُو ارْتِيابُ الْمُخاطبِين، وعلى ما رُوِي عنْ أبِي بْنِ كعْبٍ حِين سأل النّبِيّ صلى الله عليه وسلم حِين شكّ فِي عِدّةِ الْآيِسةِ والصّغِيرةِ.
وأيْضا لوْ كان الْمُرادُ الِارْتِياب فِي الْإِياسِ لكان توْجِيهُ الْخِطابِ إليْهِنّ أوْلى مِنْ توْجِيهِهِ إلى الرِّجالِ؛ لِأنّ الْحيْض إنّما يُتوصّلُ إلى معْرِفتِهِ مِنْ جِهتِها ولِذلِك كانتْ مُصدّقة فِيهِ فكان يقول: إنْ ارْتبْتُنّ أوْ ارْتبْن فلمّا خاطب الرِّجال بِذلِك دُونهُنّ عُلِم أنّهُ أراد ارْتِياب الْمُخاطبِين فِي الْعِدّةِ.
وقوله تعالى: {واللائِي لمْ يحِضْن} يعْنِي: واللائِي لمْ يحِضْن عِدّتُهُنّ ثلاثةُ أشْهُرٍ؛ لِأنّهُ كلامٌ لا يسْتقِلُّ بِنفْسِهِ فلابد لهُ مِنْ ضمِيرٍ، وضمِيرُهُ ما تقدّم ذِكْرُهُ مُظْهرا وهُو الْعِدّةُ بِالشُّهُورِ.

.بابُ عِدّةُ الْحامِلِ:

قال الله تعالى: {وأُولاتُ الْأحْمالِ أجلُهُنّ أنْ يضعْن حمْلهُنّ} قال أبُو بكْرٍ: لمْ يخْتلِفْ السّلفُ والْخلفُ بعْدهُمْ أنّ عِدّة الْمُطلّقةِ الْحامِلِ أنْ تضع حمْلها، واخْتلف السّلفُ فِي عِدّةِ الْحامِلِ الْمُتوفى عنْها زوْجُها، فقال علِيٌّ وابْنُ عبّاسٍ: تعْتدُّ الْحامِلُ الْمُتوفى عنْها زوْجُها آخِر الْأجليْنِ وقال عمْرٌو وابْنُ مسْعُودٍ وابْنُ عُمر وأبُو مسْعُودٍ الْبدْرِيُّ وأبُو هُريْرة: عِدّتُها الْحمْلُ فإِذا وضعتْ حلّتْ للأزْواجِ وهُو قول فُقهاءِ الْأمْصارِ.
قال أبُو بكْرٍ: روى إبْراهِيمُ عنْ علْقمة عنْ ابْنِ مسْعُودٍ قال: منْ شاء لاعنْتُهُ ما نزلتْ: {وأُولاتُ الْأحْمالِ أجلُهُنّ} إلّا بعْد آيةِ الْمُتوفى عنْها زوْجُها.
قال أبُو بكْرٍ: قدْ تضمّن قول ابْنِ مسْعُودٍ هذا معْنييْنِ: أحدُهُما: إثْباتُ تارِيخِ نُزُولِ الْآيةِ وأنّها نزلتْ بعْد ذِكْرِ الشُّهُورِ للمُتوفى عنْها زوْجُها، والثّانِي: أنّ الْآية مُكْتفِيةٌ بِنفْسِها فِي إفادةِ الْحُكْمِ على عُمُومِها غيْرُ مُضمّنةٍ بِما قبْلها مِنْ ذِكْرِ الْمُطلّقةِ، فوجب اعْتِبارُ الْحمْلِ فِي الْجمِيعِ مِنْ الْمُطلّقاتِ والْمُتوفى عنْهُنّ أزْواجُهُنّ وأنْ لا يُجْعل الْحُكْمُ مقْصُورا على الْمُطلّقاتِ؛ لِأنّهُ تخْصِيصُ عُمُومٍ بِلا دلالةٍ.
ويدُلُّ على أنّ الْمُتوفى عنْها زوْجُها داخِلةٌ فِي الْآيةِ مُرادةٌ بِها اتِّفاقُ الْجمِيعِ على أنّ مُضِيّ شُهُورِ الْمُتوفى عنْها زوْجُها لا يُوجِبُ انْقِضاء عِدّتِها دُون وضْعِ الْحمْلِ، فدلّ على أنّها مُرادةٌ بِها، فوجب اعْتِبارُ الْحمْلِ فِيها دُون غيْرِهِ، ولوْ جاز اعْتِبارُ الشُّهُورِ؛ لِأنّها مذْكُورةٌ فِي آيةٍ أُخْرى لجاز اعْتِبارُ الْحيْضِ مع الْحمْلِ فِي الْمُطلّقةِ؛ لِأنّها مذْكُورةٌ فِي قوله تعالى: {والْمُطلّقاتُ يتربّصْن بِأنْفُسِهِنّ ثلاثة قُرُوءٍ} وفِي سُقُوطِ اعْتِبارِ الْحيْضِ مع الْحمْلِ دلِيلٌ على سُقُوطِ اعْتِبارِ الشُّهُورِ مع الْحمْلِ.
وقدْ روى منْصُورٌ عنْ إبْراهِيم عنْ الْأسْودِ عنْ أبِي السّنابِلِ بْنِ بعْككٍ: أنّ سبيعة بِنْت الْحارِثِ وضعتْ بعْد وفاةِ زوْجِها بِثلاثةٍ وعِشْرِين، فتشوّقتْ للنِّكاحِ، فذُكِر ذلِك للنّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فقال: «إنْ تفْعلْ فقدْ خلا أجلُها».
وروى يحْيى بْنُ أبِي كثِيرٍ عنْ أبِي سلمة بْنِ عبْدِ الرّحْمنِ قال: اخْتلف ابْنُ عبّاسٍ وأبُو هُريْرة فِي ذلِك، فأرْسل ابْنُ عبّاسٍ كُريْبا إلى أُمِّ سلمة فقالتْ: إنّ سبيعة وضعتْ بعْد وفاةِ زوْجِها بِأيّامٍ، فأمرها رسُولُ الله صلى الله عليه وسلم بِأنْ تتزوّج وروى مُحمّدُ بْنُ إِسْحاق عنْ مُحمّدِ بْنِ إبْراهِيم التّيْمِيّ عنْ أبِي سلمة عنْ سبيعة أنّها وضعتْ بعْد موْتِ زوْجِها بِشهْريْنِ، فقال لها رسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: «تزوّجِي» وجعل أصْحابُنا عِدّة امْرأةِ الصّغِيرِ مِنْ الْوفاةِ الْحمْل إذا تُوُفِّي عنْها زوْجُها وهِي حامِلٌ، لِقوله تعالى: {وأُولاتُ الْأحْمالِ أجلُهُنّ أنْ يضعْن حمْلهُنّ} ولمْ يُفرِّقْ بيْن امْرأةِ الصّغِيرِ والْكبِيرِ ولا بيْن منْ يلْحقُهُ بِالنّسبِ أوْ لا يلْحقُهُ.

.بابُ السُّكْنى للمُطلّقةِ:

قال الله تعالى: {أسْكِنُوهُنّ مِنْ حيْثُ سكنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ} الْآية.
قال أبُو بكْرٍ: اتّفق الْجمِيعُ مِنْ فُقهاءِ الْأمْصارِ وأهْلِ الْعِراقِ ومالِكٍ والشّافِعِيِّ على وُجُوبِ السُّكْنى للمبْتُوتةِ وقال ابْنُ أبِي ليْلى: لا سُكْنى للمبْتُوتةِ إنّما هِي للرّجْعِيّةِ.
قال أبُو بكْرٍ: قوله تعالى: {فطلِّقُوهُنّ لِعِدّتِهِنّ} قدْ انْتظم الرّجْعِيّة والْمبْتُوتة، والدّلِيلُ على ذلِك أنّ منْ بقِي مِنْ طلاقِها واحِدةٌ فعليْهِ أنْ يُطلِّقها للعِدّةِ إذا أراد طلاقها بِالْآيةِ، وكذلِك قال النّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «يُطلِّقُها طاهِرا مِنْ غيْرِ جِماعٍ أوْ حامِلا قدْ اسْتبان حمْلُها»، ولمْ يُفرِّقْ بيْن التّطْلِيقةِ الْأُولى وبيْن الثّالِثةِ فإِذا كان قولهُ: {فطلِّقُوهُنّ لِعِدّتِهِنّ} قدْ تضمّن الْبائِن، ثُمّ قال: {أسْكِنُوهُنّ مِنْ حيْثُ سكنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ} وجب ذلِك للجمِيعِ مِنْ الْبائِنِ والرّجْعِيِّ.
فإِنْ قِيل: لمّا قال تعالى: {لا تدْرِي لعلّ الله يُحْدِثُ بعْد ذلِك أمْرا} وقال: {فإِذا بلغْن أجلهُنّ فأمْسِكُوهُنّ بِمعْرُوفٍ أوْ فارِقُوهُنّ بِمعْرُوفٍ} دلّ ذلِك على أنّهُ أراد الرّجْعِيّ قِيل لهُ: هذا أحدُ ما انْتظمتْهُ الْآيةُ، ولا دلالة فِيهِ على أنّ أوّل الْخِطابِ فِي الرّجْعِيِّ دُون الْبائِنِ، وهُو مِثْلُ قولهِ: {والْمُطلّقاتُ يتربّصْن بِأنْفُسِهِنّ ثلاثة قُرُوءٍ} وهُو عُمُومٌ فِي الْبائِنِ والرّجْعِيِّ.
ثُمّ قولهُ: {وبُعُولتُهُنّ أحقُّ بِردِّهِنّ} إنّما هُو حُكْمٌ خاصٌّ فِي الرّجْعِيِّ، ولمْ يمْنعْ أنْ يكُون قوله تعالى: {والْمُطلّقاتُ يتربّصْن بِأنْفُسِهِنّ ثلاثة قُرُوءٍ} عامّا فِي الْجمِيعِ.
واحْتجّ ابْنُ أبِي ليْلى بِحديث فاطِمة بِنْتِ قيْسٍ، وسنتكلّمُ فِيهِ عِنْد ذِكْرِ نفقةِ الْمبْتُوتةِ إنْ شاء الله تعالى.
واخْتلف فُقهاءُ الْأمْصارِ فِي نفقةِ الْمبْتُوتةِ، فقال أصْحابُنا والثّوْرِيُّ والْحسنُ بْنُ صالِحٍ: لِكُلِّ مُطلّقةٍ السُّكْنى والنّفقةُ ما دامتْ فِي الْعِدّةِ حامِلا كانتْ أوْ غيْر حامِلٍ. ورُوِي مِثْلُهُ عنْ عُمر وابْنِ مسْعُودٍ وقال ابْنُ أبِي ليْلى: لا سُكْنى للمبْتُوتةِ ولا نفقة. ورُوِي عنْهُ أنّ لها السُّكْنى ولا نفقة لها وقال عُثْمانُ الْبتِّيُّ: لِكُلِّ مُطلّقةٍ السُّكْنى والنّفقةُ وإِنْ كانتْ غيْر حامِلٍ. وكان يُرى أنّها تنْتقِلُ إنْ شاءتْ، وقال مالِكٌ: للمبْتُوتةِ السُّكْنى ولا نفقة لها إلّا أنْ تكُون حامِلا. ورُوِي عنْهُ أنّ عليْهِ نفقة الْحامِلِ الْمبْتُوتةِ إنْ كان مُوسِرا وإِنْ كان مُعْسِرا فلا نفقة لها عليْهِ.
وقال الْأوْزاعِيُّ والليْثُ والشّافِعِيُّ: للمبْتُوتةِ السُّكْنى ولا نفقة لها إلّا أنْ تكُون حامِلا. قال الله تعالى: {أسْكِنُوهُنّ مِنْ حيْثُ سكنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ ولا تُضارُّوهُنّ لِتُضيِّقُوا عليْهِنّ}؛ وقدْ تضمّنتْ هذِهِ الْآيةُ الدّلالة على وُجُوبِ نفقةِ الْمبْتُوتةِ مِنْ ثلاثةِ أوْجُهٍ: أحدُها: أنّ السُّكْنى لمّا كانتْ حقّا فِي مالٍ وقدْ أوْجبها الله لها بِنصِّ الْكِتابِ؛ إذْ كانتْ الْآيةُ قدْ تناولتْ الْمبْتُوتة والرّجْعِيّة فقدْ اقْتضى ذلِك وُجُوب النّفقةِ؛ إذْ كانتْ السُّكْنى حقّا فِي مالٍ وهِي بعْضُ النّفقةِ.
والثّانِي: قولهُ: {ولا تُضارُّوهُنّ} والْمُضارّةُ تقعُ فِي النّفقةِ كهِي فِي السُّكْنى والثّالِثُ: قولهُ: {لِتُضيِّقُوا عليْهِنّ} والتّضْيِيقُ قدْ يكُونُ فِي النّفقةِ أيْضا، فعليْهِ أنْ يُنْفِق عليْها ولا يُضيِّق عليْها فِيها.
وقوله تعالى: {وإِنْ كُنّ أُولاتِ حمْلٍ فأنْفِقُوا عليْهِنّ} قدْ انْتظم الْمبْتُوتة والرّجْعِيّة؛ ثُمّ لا تخْلُو هذِهِ النّفقةُ مِنْ أنْ يكُون وُجُوبُها لِأجْلِ الْحمْلِ أوْ؛ لِأنّها محْبُوسةٌ عليْهِ فِي بيْتِها، فلمّا اتّفق الْجمِيعُ على أنّ النّفقة واجِبةٌ للرّجْعِيّةِ بِالْآيةِ لا للحمْلِ بلْ؛ لِأنّها محْبُوسةٌ عليْهِ فِي بيْتِهِ وجب أنْ تسْتحِقّ الْمبْتُوتةُ النّفقة لهذِهِ الْعِلّةِ؛ إذْ قدْ عُلِم ضمِيرُ الْآيةِ فِي عِلِّيّةِ اسْتِحْقاقِ النّفقةِ للرّجْعِيّةِ، فصار كقولهِ: {فأنْفِقُوا عليْهِنّ} لِعِلّةِ أنّها محْبُوسةٌ عليْهِ فِي بيْتِهِ؛ لِأنّ الضّمِير الّذِي تقُومُ الدّلالةُ عليْهِ بِمنْزِلةِ الْمنْطُوقِ بِهِ ومِنْ جِهةٍ أُخْرى وهِي أنّ نفقة الْحامِلِ لا تخْلُو مِنْ أنْ تكُون مُسْتحقّة للحمْلِ أوْ لِأنّها محْبُوسةٌ عليْهِ فِي بيْتِهِ، فلوْ كانتْ مُسْتحقّة للحمْلِ لوجب أنّ الْحمْل لوْ كان لهُ مالٌ أنْ يُنْفق عليْها مِنْ مالِهِ كما أنّ نفقة الصّغِيرِ فِي مالِ نفْسِهِ، فلمّا اتّفق الْجمِيعُ على أنّ الْحمْل إذا كان لهُ مالٌ كانتْ نفقةُ أُمِّهِ على الزّوْجِ لا فِي مالِ الْحمْلِ دلّ على أنّ وُجُوب النّفقةِ مُتعلِّقٌ بِكوْنِها محْبُوسة فِي بيْتِهِ.
وأيْضا كان يجِبُ أنْ تكُون فِي الطّلاقِ الرّجْعِيِّ نفقةُ الْحامِلِ فِي مالِ الْحمْلِ إذا كان لهُ مالٌ، كما أنّ نفقتهُ بعْد الْوِلادةِ مِنْ مالٍ، فلمّا اتّفق الْجمِيعُ على أنّ نفقتها فِي الطّلاقِ الرّجْعِيِّ لمْ تجِبْ فِي مالِ الْحمْلِ وجب مِثْلُهُ فِي الْبائِنِ، وكان يجِبُ أنْ تكُون نفقةُ الْحامِلِ الْمتوفى عنْها زوْجُها فِي نصِيبِ الْحمْلِ مِنْ الْمِيراثِ.
فإِنْ قِيل: فما فائِدةُ تخْصِيصِ الْحامِلِ بِالذِّكْرِ فِي إيجابِ النّفقةِ؟ قِيل لهُ: قدْ دخلتْ فِيهِ الْمُطلّقةُ الرّجْعِيّةُ ولمْ يمْنعْ نفْي النّفقةِ لِغيْرِ الْحامِلِ، فكذلِك فِي الْمبْتُوتةِ؛ وإِنّما ذكر الْحمْل؛ لِأنّ مُدّتهُ قدْ تطُولُ وتقْصُرُ، فأراد إعْلامنا وُجُوب النّفقةِ مع طُولِ مُدّةِ الْحمْلِ الّتِي هِي فِي الْعِدّةِ أطْولُ مِنْ مُدّةِ الْحيْضِ ومِنْ جِهةِ النّظرِ أنّ النّاشِزة إذا خرجتْ مِنْ بيْتِ زوْجِها لا تسْتحِقُّ النّفقة مع بقاءِ الزّوْجِيّةِ، لِعدمِ تسْلِيمِ نفْسِها فِي بيْتِ الزّوْجِ، ومتى عادتْ إلى بيْتِهِ اسْتحقّتْ النّفقة، فثبت أنّ الْمعْنى الّذِي تسْتحِقُّ بِهِ النّفقة هُو تسْلِيمُ نفْسِها فِي بيْتِ الزّوْجِ، فلمّا اتّفقْنا ومنْ أوْجب السُّكْنى على وُجُوبِ السُّكْنى وصارتْ بِها مُسلِّمة لِنفْسِها فِي بيْتِ زوْجِها وجب أنْ تسْتحِقّ النّفقة وأيْضا لمّا اتّفق الْجمِيعُ على أنّ الْمُطلّقة الرّجْعِيّة تسْتحِقُّ النّفقة فِي الْعِدّةِ وجب أنْ تسْتحِقّها الْمبْتُوتةُ، والْمعْنى فِيها أنّها مُعْتدّةٌ مِنْ طلاقٍ، وإِنْ شِئْت قُلْت: إنّها محْبُوسةٌ عليْهِ بِحُكْمِ عقْدٍ صحِيحٍ، وإِنْ شِئْت قُلْت: إنّها مُسْتحِقّةٌ للسُّكْنى، فأيُّ هذِهِ الْمعانِي اعْتللت بِهِ صحّ الْقِياسُ عليْها.
ومِنْ جِهةِ السُّنّةِ ما روى حمّادُ بْنُ سلمة عنْ حمّادِ بْنِ أبِي سُليْمان عنْ الشّعْبِيِّ: أنّ فاطِمة بِنْت قيْسٍ طلّقها زوْجُها طلاقا بائِنا، فأتتْ النّبِيّ صلى الله عليه وسلم فقال: «لا نفقة لك ولا سُكْنى»، قال: فأخْبرْت بِذلِك النّخعِيّ فقال: قال عُمرُ بْنُ الْخطّابِ، وأخْبر بِذلِك فقال: لسْنا بِتارِكِي آيةٍ فِي كِتابِ الله وقول رسُولِ الله صلى الله عليه وسلم لِقول امْرأةٍ لعلّها أُوهِمتْ سمِعْت رسُول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «لها السُّكْنى والنّفقةُ». وروى سُفْيانُ عنْ سلمة عنْ الشّعْبِيِّ عنْ فاطِمة عنْ النّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: أنّهُ لمْ يجْعلْ لها حِين طلّقها زوْجُها ثلاثا سُكْنى ولا نفقة، فذكرْت ذلِك لِإِبْراهِيم فقال: قدْ رُفِع ذلِك إلى عُمر فقال: لا ندعُ كِتاب ربِّنا ولا سُنّة نبِيِّنا لِقول امْرأةٍ: لها السُّكْنى والنّفقةُ. فقدْ نصّ هذانِ الْخبرانِ على إيجابِ النّفقةِ والسُّكْنى، وفِي الْأوّلِ سمِعْت رسُول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «لها السُّكْنى والنّفقةُ» ولوْ لمْ يقُلْ ذلِك كان قولهُ: «لا ندعُ كِتاب ربِّنا وسُنّة نبِيِّنا» يقْتضِي أنْ يكُون ذلِك نصّا مِنْ النّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي إيجابِهِما واحْتجّ الْمُبْطِلُون للسُّكْنى والنّفقةِ ومنْنفى النّفقة دُون السُّكْنى بِحديث فاطِمة بِنْتِ قيْسٍ هذا، وهذا حديث قدْ ظهر مِنْ السّلفِ النّكِيرُ على راوِيهِ، ومِنْ شرْطِ قبُولِ أخْبارِ الْآحادِ تعرِّيها مِنْ نكِيرِ السّلفِ أنْكرهُ عُمرُ بْنُ الْخطّابِ على فاطِمة بِنْتِ قيْسٍ فِي الْحديث الْأوّلِ الّذِي قدّمْناهُ.
وروى الْقاسِمُ بْنُ مُحمّدٍ أنّ مرْوان ذكر لِعائِشة حديث فاطِمة بِنْتِ قيْسٍ فقالتْ: لا يضُرُّك أنْ لا تذْكُر حديث فاطِمة بِنْتِ قيْسٍ وقالتْ فِي بعْضِهِ: ما لِفاطِمة خيْرٌ فِي أنْ تذْكُر هذا الْحديث يعْنِي قولها: «لا سُكْنى لك ولا نفقة» وقال ابْنُ الْمُسيِّبِ: تِلْك امْرأةٌ فتنتْ النّاس، اسْتطالتْ على أحْمائِها بِلِسانِها، فأُمِرتْ بِالِانْتِقال.
وقال أبُو سلمة: أنْكر النّاسُ عليْها ما كانتْ تُحدِّثُ بِهِ.
وروى الْأعْرجُ عنْ أبِي سلمة أنّ فاطِمة كانتْ تُحدِّثُ عنْ رسُولِ الله صلى الله عليه وسلم أنّهُ قال لها: «اعْتدِّي فِي بيْتِ ابْنِ أُمِّ مكْتُومٍ»؛ قال: وكان مُحمّدُ بْنُ أُسامة يقول: كان أُسامةُ إذا ذكرتْ فاطِمةُ مِنْ ذلِك شيْئا رماها بِما كان فِي يدِهِ؛ فلمْ يكُنْ يُنْكِرُ عليْها هذا النّكِير إلّا وقدْ علِم بُطْلان ما روتْهُ وروى عمّارُ بْنُ رزيق عنْ أبِي إِسْحاق قال: كُنْت عِنْد الْأسْودِ بْنِ يزِيد فِي الْمسْجِدِ فقال الشّعْبِيُّ: حدّثتْنِي فاطِمةُ بِنْتُ قيْسٍ أنّ النّبِيّ قال لها: «لا سُكْنى لك ولا نفقة» قال: فرماهُ الْأسْودُ بِحصى ثُمّ قال: ويْلُك أتُحدِّثُ بِمِثْلِ هذا؟ قدْ رُفِع ذلِك إلى عُمر فقال: لسْنا بِتارِكِي كِتابِ ربِّنا وسُنّةِ نبِيِّنا لِقول امْرأةٍ لا تدْرِي لعلّها كذبتْ؛ قال الله تعالى: {لا تُخْرِجُوهُنّ مِنْ بُيُوتِهِنّ} وروى الزُّهْرِيُّ قال: أخْبرنِي عُبيْدُ الله بْنُ عبْدِ الله بْنِ عُتْبة: «أنّ فاطِمة بِنْت قيْسٍ أفْتتْ بِنْت أخِيها وقدْ طلّقها زوْجُها بِالِانْتِقال مِنْ بيْتِ زوْجِها، فأنْكر ذلِك مرْوانُ، فأرْسل إلى فاطِمة يسْألُها على ذلِك، فذكرتْ أنّ رسُول الله صلى الله عليه وسلم أفْتاها بِذلِك، فأنْكر ذلِك مرْوانُ وقال: قال الله تعالى: {لا تُخْرِجُوهُنّ مِنْ بُيُوتِهِنّ ولا يخْرُجْن} قالتْ فاطِمةُ: إنّما هذا فِي الرّجْعِيِّ لِقوله تعالى: {لا تدْرِي لعلّ الله يُحْدِثُ بعْد ذلِك أمْرا فإِذا بلغْن أجلهُنّ فأمْسِكُوهُنّ بِمعْرُوفٍ} فقال مرْوانُ: لمْ أسْمعْ بِهذا الْحديث مِنْ أحدٍ قبْلك وسآخُذُ بِالْعِصْمةِ الّتِي وجدْت النّاس عليْها»، فقدْ ظهر مِنْ هؤُلاءِ السّلفِ النّكِيرُ على فاطِمة فِي رِوايتِها لِهذا الْحديث، ومعْلُومٌ أنّهُمْ كانُوا لا يُنْكِرُون رِواياتِ الْأفْرادِ بِالنّظرِ والْمُقايسةِ، فلوْلا أنّهُمْ قدْ علِمُوا خِلافهُ مِنْ السُّنّةِ ومِنْ ظاهِرِ الْكِتابِ لما أنْكرُوهُ عليْها وقدْ اسْتفاض خبرُ فاطِمة فِي الصّحابةِ فلمْ يعْملْ بِهِ مِنْهُمْ أحدٌ إلّا شيْئا رُوِي عنْ ابْنِ عبّاسٍ رواهُ الْحجّاجُ بْنُ أرطاة عنْ عطاءٍ عنْ ابْنِ عبّاسٍ أنّهُ كان يقول فِي الْمُطلّقةِ ثلاثا والْمتوفى عنْها زوْجُها: لا نفقة لهُما وتعْتدّانِ حيْثُ شاءتا.
فهذا الّذِي ذكرْنا فِي ردِّ خبرِ فاطِمة بِنْتِ قيْسٍ مِنْ جِهةِ ظُهُورِ النّكِيرِ مِنْ السّلفِ عليْها وفِي رِوايتِها ومُعارضةُ حديث عُمر إيّاهُ يُلْزِمُ الْفرِيقيْنِ مِنْ نُفاةِ السُّكْنى والنّفقةِ وممن ن في النّفقة وأثْبت السُّكْنى، وهُو لِمنْنفى النّفقة دُون السُّكْنى ألْزمُ؛ لِأنّهُمْ قدْ تركُوا حديثها فِي نفْيِ السُّكْنى لِعِلّةٍ أوْجبتْ ذلِك، فتِلْك الْعِلّةُ بِعيْنِها هِي الْمُوجِبةُ لِترْكِ حديثها فِي نفْيِ النّفقةِ.
فإِنْ قِيل: إنّما لمْ يُقْبلْ حديثها فِي نفْيِ السُّكْنى لِمُخالفتِهِ لِظاهِرِ الْكِتابِ، وهُو قوله تعالى: {أسْكِنُوهُنّ مِنْ حيْثُ سكنْتُمْ} قِيل لهُ: قدْ احْتجّتْ هِي فِي أنّ ذلِك فِي الْمُطلّقةِ الرّجْعِيّةِ، ومع ذلِك فإِنْ جاز عليْها الْوهْمُ والْغلطُ فِي رِوايتِها حديثا مُخالِفا للكِتابِ فكذلِك سبِيلُها فِي النّفقةِ.
وللحديث عِنْدنا وجْهٌ صحِيحٌ يسْتقِيمُ على مذْهبِنا فِيما روتْهُ مِنْ نفْيِ السُّكْنى والنّفقةِ وذلِك لِأنّهُ قدْ رُوِي أنّها اسْتطالتْ بِلِسانِها على أحْمائِها فأمرُوها بِالِانْتِقال وكانتْ سبب النّقْلةِ، وقال الله تعالى: {لا تُخْرِجُوهُنّ مِنْ بُيُوتِهِنّ ولا يخْرُجْن إلّا أنْ يأْتِين بِفاحِشةٍ مُبيِّنةٍ}.
وقدْ رُوِي عنْ ابْنِ عبّاسٍ فِي تأْوِيلِهِ: أنْ تسْتطِيل على أهْلِهِ فيُخْرِجُوها. فلمّا كان سببُ النّقْلةِ مِنْ جِهتِها كانتْ بِمنْزِلةِ النّاشِزةِ، فسقطتْ نفقتُها وسُكْناها جمِيعا، فكانتْ الْعِلّةُ الْمُوجِبةُ لِإِسْقاطِ النّفقةِ هِي الْمُوجِبةُ لِإِسْقاطِ السُّكْنى؛ وهذا يدُلُّ على صِحّةِ أصْلِنا الّذِي قدّمْنا فِي أنّ اسْتِحْقاق النّفقةِ مُتعلِّقٌ بِاسْتِحْقاقِ السُّكْنى.
فإِنْ قِيل: ليْستْ النّفقةُ كالسُّكْنى؛ لِأنّ السُّكْنى حقٌّ لله تعالى لا يجُوزُ تراضِيهِما على إسْقاطِها، والنّفقةُ حقٌّ لها لوْ رضِيتْ بِإِسْقاطِها لسقطتْ قِيل لهُ: لا فرْق بيْنهُما مِنْ الْوجْهِ الّذِي وجب قِياسُها عليْها؛ وذلِك لِأنّ السُّكْنى فِيها معْنيانِ: أحدُهُما: حقٌّ لله تعالى وهُو كوْنُها فِي بيْتِ الزّوْجِ.
والْآخرُ: حقٌّ لها وهُو ما يلْزمُ فِي الْمالِ مِنْ أُجْرةِ الْبيْتِ إنْ لمْ يكُنْ لهُ، ولوْ رضِيتْ بِأنْ تُعْطى هِي الْأُجْرةُ وتُسْقِطها عنْ الزّوْجِ جاز، فمِنْ حيْثُ هِي حقٌّ فِي الْمالِ قدْ اسْتويا واخْتلفُوا فِي نفقةِ الْحامِلِ الْمتوفى عنْها زوْجُها، فقال ابْنُ عبّاسٍ وابْنُ مسْعُودٍ وابْنُ عُمر وشريح وأبُو الْعالِيةِ والشّعْبِيُّ وإِبْراهِيمُ: نفقتُها مِنْ جمِيعِ الْمالِ. وقال ابْنُ عبّاسٍ وجابِرٌ وابْنُ الزُّبيْرِ والْحسنُ وابْنُ الْمُسيِّبِ وعطاءٌ لا نفقة لها فِي مالِ الزّوْجِ بلْ هِي على نفْسِها. واخْتلف فُقهاءُ الْأمْصارِ أيْضا فِي ذلِك، فقال أبُو حنِيفة وأبُو يُوسُف وزُفرُ ومُحمّدٌ: لا سُكْنى لها ولا نفقة فِي مالِ الْميِّتِ حامِلا كانتْ أوْ غيْر حامِلٍ. وقال ابْنُ أبِي ليْلى: نفقتُها فِي مالِ الزّوْجِ بِمنْزِلةِ الدّيْنِ على الْميِّتِ إذا كانتْ حامِلا. وقال مالِكٌ: نفقتُها على نفْسِها وإِنْ كانتْ حامِلا ولها السُّكْنى إنْ كانتْ الدّارُ للزّوْجِ، وإِنْ كان عليْهِ ديْنٌ فالْمرْأةُ أحقُّ بِسُكْناها حتّى تنْقضِي عِدّتُها، وإِنْ كانتْ فِي بيْتٍ بِكِراءٍ فأخْرجُوها لمْ يكُنْ لها سُكْنى فِي مالِ الزّوْجِ. هذِهِ رِوايةُ ابْنِ وهْبٍ.
وقال ابْنُ الْقاسِمِ عنْ مالِكٍ: لا نفقة لها فِي مالِ الزّوْجِ الْميِّتِ ولها السُّكْنى إنْ كان الدّارُ للميِّتِ، وإِنْ كان عليْهِ ديْنٌ فهِي أحقُّ بِالسُّكْنى مِنْ الْغُرماءِ وتُباعُ للغُرماءِ ويُشْترطُ السُّكْنى على الْمُشْترِي. وقال الْأشْجعِيُّ عنْ الثّوْرِيِّ: إذا كانتْ حامِلا أنْفق عليْها مِنْ جمِيعِ الْمالِ حتّى تضع، فإِذا وضعتْ أنْفق على الصّبِيِّ مِنْ نصِيبِهِ.
وروى الْمُعا في عنْهُ أنّ نفقتها مِنْ حِصّتِها وقال الْأوْزاعِيُّ فِي الْمرْأةِ يمُوتُ زوْجُها وهِي حامِلٌ: فلا نفقة لها، وإِنْ كانتْ أُمّ ولدٍ فلها النّفقةُ مِنْ جمِيعِ الْمالِ حتّى تضع. وقال الليْثُ فِي أُمِّ الْولدِ إذا كانتْ حامِلا مِنْهُ: فإِنّهُ يُنْفِقُ عليْها مِنْ جمِيعِ الْمالِ، فإِنْ ولدتْ كان ذلِك فِي حظِّ ولدِها، وإِنْ لمْ تلِدْ كان ذلِك ديْنا يُتْبعُ بِهِ. وقال الْحسنُ بْنُ صالِحٍ: للمتوفى عنْها زوْجُها النّفقةُ مِنْ جمِيعِ الْمالِ. وقال الشّافِعِيُّ فِي الْمتوفى عنْها زوْجُها قوليْنِ: أحدُهُما: لها السُّكْنى والنّفقةُ..
والْآخرُ: لا سُكْنى لها ولا نفقة.
قال أبُو بكْرٍ: قدْ اتّفق الْجمِيعُ على أنْ لا نفقة للمتوفى عنْها زوْجُها غيْرِ الْحامِلِ ولا سُكْنى، فوجب أنْ تكُون الْحامِلُ مِثْلها لِاتِّفاقِ الْجمِيعِ على أنّ هذِهِ النّفقة غيْرُ مُسْتحقّةٍ للحمْلِ، ألا ترى أنّ أحدا مِنْهُمْ لمْ يُوجِبْها فِي نصِيبِ الْحمْلِ مِنْ الْمِيراثِ وإِنّما قالوا فِيهِ قوليْنِ، قائِلٌ يجْعلُ نفقتها مِنْ نصِيبِها، وقائِلٌ يجْعلُ النّفقة مِنْ جمِيعِ مالِ الْميِّتِ، ولمْ يُوجِبْها أحدٌ فِي حِصّةِ الْحمْلِ؟ فلمّا لمْ تجِبْ النّفقةُ لِأجْلِ الْحمْلِ ولمْ يجُزْ أنْ تكُون مُسْتحقّة لِأجْلِ كوْنِها فِي الْعِدّةِ؛ لِأنّها لوْ وجبتْ للعِدّةِ لوجبتْ لِغيْرِ الْحامِلِ، فلمْ يبْق وجْهٌ تسْتحِقُّ بِهِ النّفقة وأيْضا لمّا لمْ تسْتحِقّ السُّكْنى فِي مالِ الزّوْجِ بِدلائِل قدْ قامتْ عليْهِ لمْ تسْتحِقّ النّفقة وأيْضا فإِنّ النّفقة إذا وجبتْ فإِنّما تجِبُ حالّا فحالّا، فلمّا مات الزّوْجُ انْتقل مِيراثُهُ إلى الْورثةِ، وليْس للزّوْجِ مالٌ فِي هذِهِ الْحالِ وإِنّما هُو مالُ الْوارِثِ، فلا يجُوزُ إيجابُها عليْهِمْ.
فإِنْ قِيل: تصِيرُ بِمنْزِلةِ الدّيْنِ، قِيل لهُ: الدّيْنُ الّذِي يثْبُتُ فِي مِيراثِ الْمُتوفى إنّما يثْبُتُ بِأحدِ وجْهيْنِ: إمّا أنْ يكُون ثابِتا على الْميِّتِ فِي حياتِهِ، أوْ يتعلّقُ وُجُوبُهُ بِسببٍ كان مِنْ الْميِّتِ قبْل موْتِهِ مِثْل الْجِناياتِ وحفْرِ الْبِئْرِ إذا وقع فِيها إنْسانٌ بعْد موْتِهِ؛ والنّفقةُ خارِجةٌ عنْ الْوجْهيْنِ، فلا يجُوزُ إيجابُها فِي مالِهِ لِعدمِ السّببِ الّذِي بِهِ تعلُّقُ وُجُوبِ النّفقةِ وعدمُ مالِهِ بِزوالِهِ إلى الْورثةِ، ألا ترى أنّ النِّكاح قدْ بطل بِالْموْتِ وأنّ مِلْك الْميِّتِ قدْ زال إلى الْورثةِ؟ فلمْ يبْق لِإِيجابِ النّفقةِ وجْهٌ؛ ألا ترى أنّ غيْر الْحامِلِ لا نفقة لها بِهذِهِ الْعِلّةِ؟ فإِنْ قِيل: قال الله تعالى: {وإِنْ كُنّ أُولاتِ حمْلٍ فأنْفِقُوا عليْهِنّ} وهُو عُمُومٌ فِي الْمُتوفى عنْها زوْجُها والْمُطلّقةِ، كما كان قولهُ: {وأُولاتِ الْأحْمالِ أجلُهُنّ أنْ يضعْن حمْلهُنّ} عُمُوما فِي الصِّنْفيْنِ؛ قِيل لهُ: هذا غلطٌ، مِنْ قِبلِ أنّ قوله تعالى: {أسْكِنُوهُنّ مِنْ حيْثُ سكنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ} خِطابٌ للأزْواجِ، وكذلِك قوله تعالى: {وإِنْ كُنّ أُولاتِ حمْلٍ فأنْفِقُوا عليْهِنّ} خِطابٌ لهُمْ، وقدْ زال عنْهُمْ الْخِطابُ بِالْموْتِ، ولا جائِزٌ أنْ يكُون ذلِك خِطابا لِغيْرِ الْأزْواجِ، فلمْ تقْتضِ الْآيةُ إيجاب نفقةِ الْمُتوفى عنْها زوْجُها بِحالٍ.
وقوله تعالى: {فإِنْ أرْضعْن لكُمْ فآتُوهُنّ أُجُورهُنّ} قدْ انْتظم الدّلالة على أحْكامٍ: مِنْها أنّهُ إذا رضِيتْ بِأنْ تُرْضِعهُ بِأجْرِ مِثْلِها لمْ يكُنْ للأبِ أنْ يسْترْضِع غيْرها، لِأمْرِ الله إيّاهُ بِإِعْطاءِ الْأجْرِ إذا أرْضعتْ، ويدُلُّ على أنّ الْأُمّ أوْلى بِحضانةِ الْولدِ مِنْ كُلِّ أحدٍ ويدُلُّ على أنّ الْأُجْرة إنّما تُسْتحقُّ بِالْفراغِ مِنْ الْعملِ ولا تُسْتحقُّ بِالْعقْدِ؛ لِأنّهُ أوْجبها بعْد الرّضاعِ بِقولهِ: {فإِنْ أرْضعْن لكُمْ فآتُوهُنّ أُجُورهُنّ} وقدْ دلّ على أنّ لبن الْمرْأةِ وإِنْ كان عيْنا فقدْ أُجْرِي مجْرى الْمنافِعِ الّتِي تُسْتحقُّ بِعُقُودِ الْإِجاراتِ، ولِذلِك لمْ يُجِزْ أصْحابُنا بيْع لبنِ الْمرْأةِ كما لا يجُوزُ عقْدُ الْبيْعِ على الْمنافِعِ، وفارق لبنُ الْمرْأةِ بِذلِك لبن سائِرِ الْحيوانِ؛ ألا ترى أنّهُ لا يجُوزُ اسْتِئْجارُ شاةٍ لِرضاعِ صبِيٍّ؛ لِأنّ الْأعْيان لا تُسْتحقُّ بِعُقُودِ الْإِجاراتِ كاسْتِئْجارِ النّخْلِ والشّجرِ؟ وقوله تعالى: {وائْتمِرُوا بيْنكُمْ بِمعْرُوفٍ} يعْنِي والله أعْلمُ: لا تشْتطّ الْمرْأةُ على الزّوْجِ فِيما تطْلُبُهُ مِنْ الْأُجْرةِ ولا يُقصِّرْ الزّوْجُ لها عنْ الْمِقْدارِ الْمُسْتحقِّ.
وقوله تعالى: {وإِنْ تعاسرْتُمْ فستُرْضِعُ لهُ أُخْرى}، قِيل: إنّهُ إذا طلبتْ الْمرْأةُ أكْثر مِنْ أجْرِ مِثْلِها ورضِيتْ غيْرُها بِأنْ تأْخُذهُ بِأجْرِ مِثْلِها فللزّوْجِ أنْ يسْترْضِع الْأجْنبِيّة ويكُونُ ذلِك فِي بيْتِ الْأُمِّ؛ لِأنّها أحقُّ بِإِمْساكِهِ والْكوْنِ عِنْدهُ.
وقوله تعالى: {لِيُنْفِقْ ذُو سعةٍ مِنْ سعتِهِ} يدُلُّ على أنّ النّفقة تُفْرضُ عليْهِ على قِدْرِ إمْكانِهِ وسعتِهِ، وأنّ نفقة الْمُعْسِرِ أقلُّ مِنْ نفقةِ الْمُوسِرِ.
وقوله تعالى: {ومنْ قُدِر عليْهِ رِزْقُهُ فلْيُنْفِقْ مما آتاهُ الله}، قِيل معْناهُ: منْ ضُيِّق عليْهِ رِزْقُهُ فلِيُنْفِقْ مما آتاهُ الله، يعْنِي- والله أعْلمُ- أنّهُ لا يُكلّفُ نفقة الْمُوسِرِ فِي هذِهِ الْحالِ بلْ على قِدْرِ إمْكانِهِ يُنْفِقُ.
وقوله تعالى: {لا يُكلِّفُ الله نفْسا إلّا ما آتاها}، فِيهِ بيانُ أنّ الله لا يُكلِّفُ أحدا ما لا يُطِيقُ؛ وهذا وإِنْ كان قدْ عُلِم بِالْعقْلِ؛ إذْ كان تكْلِيفُ ما لا يُطاقُ قبِيحا وسفها فإِنّ الله ذكرهُ فِي الْكِتابِ تأْكِيدا لِحُكْمِهِ فِي الْعقْلِ، وقدْ تضمّن معْنى آخر مِنْ جِهةِ الْحُكْمِ وهُو الْإِخْبارُ بِأنّهُ إذا لمْ يقْدِرْ على النّفقةِ لمْ يُكلِّفْهُ الله الْإِنْفاق فِي هذِهِ الْحالِ، وإِذا لمْ يُكلّفْ الْإِنْفاق فِي هذِهِ الْحالِ لمْ يجُزْ التّفْرِيقُ بيْنهُ وبيْن امْرأتِهِ لِعجْزِهِ عنْ نفقتِها؛ وفِي ذلِك دلِيلٌ على بُطْلانِ قول منْ فرّق بيْن الْعاجِزِ عنْ نفقةِ امْرأتِهِ وبيْنها.
فإِنْ قِيل فقدْ آتاهُ الطّلاق فعليْهِ أنْ يُطلِّق قِيل لهُ: قدْ بيّن بِهِ أنّهُ لمْ يُكلِّفْهُ النّفقة فِي هذِهِ الْحالِ فلا يجُوزُ إجْبارُهُ على الطّلاقِ مِنْ أجْلِها؛ لِأنّ فِيهِ إيجاب التّفْرِيقِ بِشيْءٍ لمْ يجِبْ وأيْضا فإِنّهُ أخْبر أنّهُ لمْ يُكلِّفْهُ مِنْ الْإِنْفاقِ إلّا ما آتاهُ، والطّلاقُ ليْس مِنْ الْإِنْفاقِ، فلمْ يدْخُلْ فِي اللفْظِ وأيْضا إنّما أراد أنّهُ لا يُكلِّفُهُ ما لا يُطِيقُ ولمْ يُرِدْ أنّهُ يُكلِّفُهُ كُلّ ما يُطِيقُ؛ لِأنّ ذلِك مفْهُومٌ مِنْ خِطابِ الْآيةِ وقوله تعالى: {سيجْعلُ الله بعْد عُسْرٍ يُسْرا} يدُلُّ على أنّهُ لا يُفرِّقُ بيْنهُما مِنْ أجْلِ عجْزِهِ عنْ النّفقةِ؛ لِأنّ الْعُسْر يُرْجى لهُ الْيُسْرُ.
آخِرُ سُورةِ الطّلاقِ. اهـ.